فتوى الانفصال:
[align=justify]
في خضم هذه الظروف، وفي أجواء الاعتقالات ـ التي أشرنا إليها ـ صدرت فتوى الشهيد الصدر بتحريم انتماء طلبة العلوم الدينية إلى الأحزاب الإسلامية، إذ ورد في نصها:
"لا يجوز انتماء طلاب العلوم الدينية إلى الأحزاب الإسلامية لأن وظيفة طالب العلم هي التبليغ والإرشاد على الطريقة المألوفة بين العلماء ".
وكانت صدرت في أوائل شهر (آب) من العام 1974، الموافق للعاشر من شعبان من العام 1394 للهجرة.
وقد أفاد السيد حسين هادي الصدر بشهادة خاصة في حيثيات الفتوى أنه
""كانت الأخبار تصل إلينا أن السلطة تزداد قناعتها يوماً بعد يوم بأن السيد الإمام الشهيد (رض) هو الذي يتزعم بالفعل حزب الدعوة. ومعنى ذلك في القاموس البعثي أنها لن تتردد في الإقدام على قتله وحرمان الأمة من بركات وجوده، لقد بدأت أفكر في طريقة مناسبة تنهي هذه المرحلة الحافلة بالهواجس والظنون والتربصات الخبيثة. وكان مما خطر ببالي في هذا الشأن تقديم استفتاء خطي لسماحته، وبطبيعة الحال فإن موقفه الصارم من منع الحزبية في الحوزات سينعكس على السلطة وسيظهر براءته من التهم المنسوبة إليه. عرضت هذا المقترح على سماحته في مجلس خاص (عائلي) دون أن يكون هناك أحد من خارج هذه الدائرة الخاصة، فلم يجزم بشيء محدد في مقام الجواب، وحين قفلت راجعاً إلى بغداد أرسل (قده) الفتوى بخطه في ورقة كان قد ترك في أعلاها فراغاً وأمرني أن أكتب بخطي صيغة الاستفتاء، الذي كان قد حددها هو ـ أيضاً ـ في ذلك الفراغ والتوقيع عليه باسمي الصريح. وكان مما قاله لي بأنه أراد أن يُحصنني أيضاً من السلطة الغاشمة""(221).
ومهما يكن من أمر، فقد وزعت هذه الفتوى من قبل رجال الأمن على المعتقلين من المتهمين بحزب الدعوة، وفي جملتهم الشيخ عارف البصري ورفاقه، وكان قد اعتقل بتاريخ 17/7/1974، وتقرر إعدامه بتاريخ 13/11/1974.
هذه الفتوى ـ وفقاً لعددٍ من الشهادات ـ كانت لها مرحلتان، إعلانها بهذه الصيغة هو الشكل العلني لها، فيما سبق ذلك مرحلة أولى، وهي مرحلة فصل جهازه ـ أي جهاز الشهيد الصدر ـ المرجعي عن التنظيم(222).
وقد كان طرح الشهيد الصدر على المجلس الاستشاري الخاص به أواخر العام 1393ه ـ 1973م ـ موضوعاً حساساً حول العلاقة بين الحوزة العلمية والتنظيم ـ وتم التوصل إلى قرار عملي يتضمن النقاط التالية حسب ما أفاد السيد الشهيد محمد باقر الحكيم(223):
1ـ أن يتم الفصل كلياً، على مستوى أجهزة المرجعية الخاصة، والعناصر الإدارية والاستشارية لها، وبين العمل المنظّم الخاص، لتحقيق الاستقلال على هذا المستوى.
2ـ أن يتم الفصل بين الحوزة بشكل عام، والعمل المنظم على مستوى دراسة السطح(*) والخارج، بحيث يتم إبلاغ الطلبة المنظمين على هذا المستوى بشكل خاص بفك الارتباط العضوي مع التنظيم الخاص.
3ـ يسمح للطلبة ذوي الدراسات الأولية (المقدمات) بأن يرتبطوا بالتنظيم الخاص مؤقتاً من أجل تحقيق التوعية السياسية في هذا القطاع مؤقتاً.
4ـ يستثنى من البند الثاني الأشخاص المرتبطون بالتنظيم الخاص الذين يكون لوجودهم دور مهم في إدارته وتثقيفه، بحيث يؤدي فك ارتباطهم منه إلى إيجاد الاختلال في الوضع التنظيمي الخاص على المستوى العلمي والثقافي.
وقد ذكر السيد الحكيم أن هناك اختلافاً شهدته هذه الجلسات بين أعضاء اللجنة الاستشارية حول هذه القرارات.
ولذلك انسحب عدد من جهازه المرجعي من حزب الدعوة، لعل أبرزهم الشهيد السيد عماد التبريزي(224)، بالرغم من أنه اعتقل وسجن بتهمة انتمائه إلى حزب الدعوة، ومن ثمَّّ أعدم بالتهمة نفسها مع الشهيد عارف البصري، ورفاقه الآخرين.
وقد شرع عدد من طلاب الشهيد الصدر بمحاولات إقناع الآخرين بفك ارتباطهم بالحزب، وقد نقل لي الشيخ الزهيري أن السيد عماد التبريزي حاول إقناعه بذلك، بعد أن كان قد فاتحه بالانتماء إلى حزب الدعوة(225).
وكان جملة من طلبة الشهيد الصدر من أمثال السيد محمد الصدر والسيد عبد العزيز الحكيم والشيخ قاسم العزاوي(226) وآخرون تحملوا مهمة فك ارتباط طلبة العلوم الدينية بحزب الدعوة، وقد نسب ذلك إلى الشهيد الصدر نفسه حيث نقل الشيخ خير الله البصري عن الشيخ راشد الطويرجاوي وكيل الشهيد الصدر في (الحيرة) أن الشهيد الصدر أرسل إليه السيد عبد العزيز الحكيم لترك العمل مع حزب الدعوة(227). وقد نقل لي السيد عبد العزيز الحكيم أن الشهيد الصدر هو الذي أشار علينا بالتحرك على طلبة العلوم الدينية لإخراجهم من حزب الدعوة(228).
وتشير بعض المصادر إلى أن هناك تعسفاً مارسته جماعة الشهيد الصدر والمرتبطون بجهازه في عملية حمل طلبة العلوم الدينية على فك ارتباطهم بحزب الدعوة على خلاف ما كان عليه الشهيد الصدر نفسه، الذي لم يكن إلاّ بصدد تمييز مرجعيته عن الحزب. ويذكر الشيخ الزهيري أن الشهيد محمد الصدر أخبره بضرورة أن يكون أحد الطلاب الذين يحضرون مجلس الشهيد الصدر أثناء زيارة زيد حيدر عضو القيادة القومية لحزب البعث، مع أن الشهيد محمد الصدر يعرف أنني في الحزب، ولكنني عندما حضرت في الوقت المقرر صدرت من قبل بعض أفراد جهاز الشهيد الصدر فعرفت أن هناك رغبة بعدم حضوري، مع أن الشهيد محمد الصدر سألني عن سبب عدم حضوري. هذا فضلاً عن الشهيد الصدر نفسه الذي حدثني وجملة من الطلاب، عن زيارة زيد حيدر وما دار في هذا اللقاء(229).
وقد أعرب بعض طلاب الشهيد والمقربين إليه عن إنزعاجهم من الطريقة هذه في حمل طلبة العلوم الدينية على فك ارتباطهم بحزب الدعوة، فأفاد الشيخ كامل الكابري بأنه حادث الشهيد الصدر في هذه المسألة، فبرّر له الشهيد هذه الخطوات بداعي حفظ الحوزة، مشيراً إلى اعترافات الشيخ صالح الظالمي الذي كان الشهيد يقول إنه (ألَّف قصيدة) في إشارة إلى كثرة اعترافاته(230). كما أفادني الشيخ طالب السنجري وكان مقرباً من الشهيد الصدر أن الشهيد حسين باقر (صهر السيد محمد باقر الحكيم) وأحد المقربين من الشهيد الصدر ـ أيضاً ـ قال له إنه يفترض فيه فك ارتباطه بالحزب، فكان أن أجابه الشيخ السنجري بأن ينقل للشهيد الصدر أنه مشتبه في هذه المسألة(231).
وبغض النظر عن ذلك، فإن هناك اعتراضات شديدة برزت تجاه أصل إعلان الفتوى وفك ارتباط الحوزة بالتنظيم، وكان جملة من طلاب الشهيد الصدر في أشد الغضب، من أمثال الشهيد حسين معن، والشيخ ماجد البدراوي، والشيخ خير الله البصري، والسيد عمار أبو رغيف، والشيخ عبد الرضا الجزائري، والشيخ الشهيد خزعل السوداني.
وتفيد بعض المصادر أن شباب البصرة كانوا ينظرون إلى حزب (الدعوة) بمثابة المقدس ولذلك كانوا شديدين على الشهيد الصدر، وقد صدرت من بعضهم كلمات غير مناسبة تجاه الشهيد الصدر، فاعتبره بعضهم نظيراً للشيخ علي كاشف الغطاء (الذي يعتبره البعض حليفاً للسلطات الرسمية العراقية)، بل إنه أسوأ منه. لكن حالات الانفعال هذه كانت محدودة، وكان أغلبها يصدر من خارج العراق كما يفيد السيد عبد العزيز الحكيم(232).
ويفيد الشيخ خير الله البصري أنه والشيخ ماجد البدراوي ناقشا الشهيد الصدر في هذه المسألة، كما أنه يقول: إنه قال للشهيد الصدر إن جدك موسى الكاظم (عليه السلام) خُيِّر بين أن يلحق الأذى بنفسه أو شيعته فاختار أذى نفسه، بينما اخترت أذى شيعتك على أذى نفسك فسكت الشهيد الصدر، كما يفيد الشيخ البصري أنه قال للشهيد الصدر: اسمع ما يقوله الشيخ أحمد البهادلي متسائلاً عما فعله الصدر وإنه نظير تصريحات السيد محمد البغدادي حول ما نسب إلى السيد مهدي الحكيم من اتهامه بالجاسوسية، فأجاب بالآية: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن تقطع ...""(233).
وإذا كان قد افترق جمهور الشهيد الصدر إلى فريقين
أحدهما:
الفريق المنسجم معه في التصورات والعمل.
وثانيهما:الغاضب من ذلك، فقد كان لأحد أبرز طلابه موقفاً سرياً - إن صحّ التعبير - إذ فضّل السيد كاظم الحائري أن يُبقي على ارتباطه بالحزب دونما الدخول في جدل مع الشهيد الصدر في موقفه من علاقة الحوزة بالتنظيم.
ويذكر السيد محمد باقر الحكيم أن الشهيد الصدر صُدم صدمة نفسية وسياسية وأصيب بالمرض عندما اعترف السيد الحائري(*) له ببقاء علاقته التنظيمية بالحزب(234)، كما ذكر أن الشهيد الصدر لم يكن مقتنعاً لما أبداه السيد الحائري من اعتذار حول فهمه لقرار الشهيد الصدر بضرورة انسحاب طلابه من حزب الدعوة، بل أن السيد الحكيم يحمل على السيد الحائري حملة شعواء في هذه المسألة، ويرى أنه استفاد من موقعه واعتماد الشهيد الصدر عليه للامتداد في الحوزة وجهاز المرجعية وتوظيف ذلك خدمة لحزب الدعوة، والذي أوجب غضب أبناء السيد الحكيم (المرجع) كما يذكر السيد محمد باقر الحكيم(235).
ويذكر الشيخ الزهيري أنه سمع من السيد الحائري نفسه أن الشهيد الصدر قد تأذى منه للموقف المشار إليه(236). كما يذكر الشيخ الزهيري عن الشهيد حسين معن بواسطة السيد علي أكبر الحائري عن الشهيد الصدر نفسه أن سبب غضبه منه هو أنه لم يسمع منه اعتراضاً لقراره ليحترمه ويقدِّره(237).
وكنت سألت السيد الحائري شخصياً حول موقفه من قرار الشهيد الصدر بفك ارتباط طلبة العلوم الدينية بالحزب، وموقف الشهيد الصدر منه لعدم الانسجام معه، فلم يجب بشيء وامتنع عن التعليق.
ومهما يكن من أمرٍ، فقد كانت الفتوى في صيغتها العلنية سبباً لانزعاج حزب الدعوة وكوادره، وينقل الشيخ عفيف النابلسي أن بعض أقطاب حزب الدعوة شكوا الأمر إلى السيد موسى الصدر(238)، ولذلك حاول الشهيد الصدر إبلاغ الدعوة بحيثيات قراره وأنه لا يستهدف وجودها، وقد كلّف لهذا الغرض السيد عبد الكريم القزويني أثناء زيارته للكويت مروراً بها إلى مكة المكرمة للحج، وذلك للاتصال بالشيخ محمد مهدي الآصفي(239). ويذكر السيد محمد باقر الحكيم أنه أبلغ الشيخ عارف البصري قرار الشهيد الصدر، وذكر البصري أن الدعوة لا تجد فرقاً بينها وبين الصدر(240). ولكن نذكّر أن الاتصال بالبصري الذي يشير إليه السيد الحكيم كان سابقاً على إعلان الفتوى.
كان الشهيد الصدر يشعر بالحرج الشديد تجاه معاتبيه، فيجيب أن فتواه صدرت وأُعلنت بداعي حفظ الحوزة، التي أُخليت من الواعين، فهم بين مطارد وبين معتقل. وهذا ما أجاب به الشهيد الصدر على عتاب الشهيد عبد المجيد الثامر الذي يعدُّ من كوادر الحزب، وكانت له صلة بالشهيد الصدر وأخرى تنظيمية مع الشهيد عارف البصري(241). وهو جواب سمعه آخرون أيضاً(242).
ولكن، يبقى من يعترض على الشهيد الصدر في إعلانه فتوى فك ارتباط الحوزة عن الحزب وبهذه الطريقة التي استفاد منها النظام أكثر مما استفادته الحوزة والحزب، إذ كان من الممكن الاقتصار على فصل المستويات العليا في الحوزة عن الحزب(243).
والمهم، أن الشهادات بمجموعها تفيد أن الشهيد الصدر كان قد أصدر فتواه بداعي حفظ الحوزة والحزب معاً، خاصة وأن أعداداً كبيرة من طلبة الحوزة العلمية اتجهت نحو العمل الحزبي.
هذا، فضلاً عن السياق الأمني الذي مرَّ به الحزب والاعتقالات التي تعرَّض لها المتهمون بانتمائهم لحزب الدعوة، وما صاحب ذلك من ظروف وبالأخص الاعترافات التي ظهرت في العام 1971م، والتي تركت تأثيراً كبيراً في نفس الشهيد الصدر، وإن كان بعضها اعترافات صورية، إلاّ أنه كان يفضل الصمود والثبات عليها(244).
وفي تسلسل الأحداث يمكن أن نلاحظ أن العام 1972 كان بداية لحملة الاعتقالات الواسعة والكبيرة للمتهمين بالانتماء لحزب الدعوة، والتي بدأت في الديوانية، وما رافق ذلك من اعترافات صدرت من بعض المتهمين بحزب الدعوة، وإن كان بعضاً من هذه الاعترافات صورياً وتفادياً للقمع والمزيد من التعذيب، إذ عمد بعضهم إلى الاعتراف لهذه الجهة. وحرصاً منهم على إخفاء قدر كبير من المعلومات عن المحققين.
وفي العام 1974 تعرَّض الحزب لحملة من الاعتقالات شملت العدد الأكبر من المتهمين بالانتساب إلى حزب الدعوة، ويذكر السيد محمد باقر الحكيم "" أن التفكير العام الذي كان يسود أفراد التنظيم الخاص هو صحة الاعتراف بالانتساب إليه والتكّتم مهما أمكن على أكبر قدر ممكن من المعلومات، وإن هذا هو أفضل طريق لمواجهة حملة القمع والاعتقالات باعتبار وجود تجربة سابقة مشابهة في السنين الماضية""(245)، في قياس منهم على ما تعرضوا له في العام 1972، بل ادّعى السيد الحكيم أن الدعوة أصدرت قراراً يحمل عناصره على الاعتراف، وكانوا يحملون المعتقلين على ذلك وإن لم يكونوا من أعضاء حزب الدعوة، ويشجعونهم على الاعتراف(246).
إلاّ أن قيادة حزب الدعوة تنفي ذلك، وتعترف بحصول اعترافات بعض المتهمين على الأشخاص الذين أفلتوا من قبضة النظام ونجحوا في السفر إلى خارج العراق أو الأموات مثلاً(247)، مثل الاعتراف على الشيخ صبحي الطفيلي ـ الذي تولّى قيادة حزب الله في لبنان ـ أو الحائري(248).
وفي أواخر العام 1973 يطرح الشهيد الصدر على مجلسه الاستشاري فكرة الفصل بين الحوزة والحزب.
وفي أواخر العام 1974 يصدر فتواه بتحريم انتماء طلبة العلوم الدينية إلى الأحزاب.
وهنا يمكن أن نتساءل: لماذا تأخر الشهيد الصدر في إعلان فتواه هذه؟!
بالتأكيد ثمة بُعد آخر غير الذي هو معلن إذ كان يكفي لفك الارتباط هو ما تقرر في العام 1973، فلما تأخر إلى العام 1974 ليعلن فتواه بذلك، خاصة وإن السيد محمد باقر الحكيم يقول إنه أعلم الشيخ عارف البصري بقرار فك ارتباط الحوزة عن الحزب، ثم تلاحقت الأحداث، واعتقل الشيخ عارف البصري(249). ولكن يُلاحظ على ما يذكره السيد الحكيم أن هناك فاصلاً زمانياً طويلاً بين قرار الشهيد الصدر بفك ارتباط الحوزة عن الحزب والذي كان في أواخر العام 1973، وبين اعتقال الشيخ البصري الذي حصل في 17/7/1974، والذي أعدم أو تقرر إعدامه بتاريخ 13/11/1974. فيما كانت الفتوى في أوائل شهر آب من العام 1974، أي بعد أقل من شهر على اعتقال الشيخ عارف البصري، وكان قد أبلغ بها وهو في السجن.
وعليه فلماذا تأخر الشهيد الصدر عن إعلان الفتوى واختار وقتاً غير مناسب تقريباً وفق بعض وجهات النظر؟! وكان يمكن أن يعلنها وقائياً قبل هذا التاريخ، خاصة وإن الاعترافات حصلت في صيغتها الشمولية في العام 1972؟!
الشيخ النعماني يؤكد أن إعلان الفتوى كان بناءً على تهديد السلطات وضغطها، وإلاّ فإنها ستقوم بتصفية الوجود الإسلامي وخاصة في الحوزة، ولذلك طلبت السلطات إصدار فتوى بهذا الشأن من الشهيد الصدر والشيخ مرتضى آل ياسين والسيد محمد باقر الحكيم(250).
وإذا كان الشيخ النعماني لم يذكر ـ لي ـ سبب مطالبة السلطات السيد محمد باقر الحكيم بإصدار فتوى بهذا الخصوص والحال أنه لا يُعدُّ في المراجع، فإن ما يؤكده يجيب عن تساؤلات ـ لي ـ طرحتها على مجموعة من طلاب الشهيد الصدر بخصوص فتوى الشيخ آل ياسين في تحريم انتماء طلبة العلوم الدينية لحزب الدعوة خصوصاً والأحزاب عموماً، وهي فتوى كنت مطلعاً عليها شخصياً.
وربما لهذا المعنى يشير السيد محمد باقر الحكيم، وهو يتحدث عما أسماه قوائم معدَّة للمزيد من الاعتقالات ـ إثر اعتقالات عام 1974ـ كان ضمنها الشهيد الصدر نفسه والسيد محمد باقر الحكيم أيضاً وآخرين(251).
وقد ذكر لي الشيخ خير الله البصري أنه في مناقشاته مع الشهيد الصدر حول فتواه وإعلانها بهذه الطريقة، أجابه بأنها سرّ وتكتيك والسرّ والتكتيك لا يُكشف عنه(252).
وربما يستكشف من الجواب ما يؤكده الشيخ النعماني من ضغط السلطات وتهديدها الشهيد الصدر وتخييره بين إعلان فتوى بالتحريم ـ المشار إليها ـ وبين تصفية الحزب والحوزة معاً.
ويبدو أن ما كان يفكّر فيه الشهيد الصدر هو في الحقيقة محاولة للتهدئة وامتصاص حقد الوسط الحوزوي من جهة والذي كان ينظر بريبة إلى الشهيد الصدر وعلاقته بحزب الدعوة في صيغ عديدة(253)، وامتصاص حقد السلطة عليه وتربصها به، وذلك بتخفيف الصبغة السياسية والحزبية التي أُلصقت به، والدخول في (تقية) إلى أن يحين الظرف المناسب، وهذا ما يفسر عدداً من المبادرات التي تدخل في هذا الإطار دونما قطيعة تامة مع حزب الدعوة، ففي الوقت الذي يبادر فيه إلى فك العلاقة مع حزب الدعوة وإحداث فاصلة مناسبة بينهما، تتصاعد عملية التهدئة مع السلطات عبر زيارات لمسؤولين من أمثال زيد حيدر عضو القيادة القومية في حزب البعث، وهو شقيق أحد طلابه ـ الشيخ أديب حيدر ـ اللبناني، فضلاً عن قبوله إجراء أحاديث صحفية معه حول بعض المكتسبات التي يتحدث عنها حزب البعث مثل التأميم ومحو الأمية(254). وكانت السلطات تعرض على الشهيد الصدر ـ وباستمرار وبطرق شتى ـ خدماتها وإنها مستعدة للإسهام في طبع بعض كتبه مثل (فلسفتنا) و(اقتصادنا)، إلاّ أنه كان يتذرع بأن حاجتهما انتفت مع تضاؤل حظوط الشيوعية والماركسية(255).
وكان ثمة عدد من طلاب الشهيد الصدر من يستغرب هذه الصيغ للتقارب مع السلطة، بحيث يطلع الشهيد الصدر متحدثاً في بعض صحف النظام ومحاولة إظهاره من قبل السلطات المرجع العربي، في وقت تدافع فيه بعض أجهزة مرجعية الشهيد الصدر عن مثل هذه الخطوات وأنها صحيحة ومتبناة وليست ملفقة من قبل السلطة كما يحاول البعض تصويرها كما هو المعتاد في تفسير مثل هذه الخطوات(256).
ولعلّ بعض هذه الخطوات وبعض هذا التفكير بما يُعدُّ انقلاباً في استراتيجية العمل عند الشهيد الصدر، كان بتأثير وبوحي من أفكار بعض طلاب الشهيد الصدر، من ذوي الهم العلمي المحض، أو من المتعبين أو من المشفقين عليه والخائفين على حياته، أو من المتأثرين بالظرف العام، الذي لا يجد فيه المراقب ثمة بارقة أمل سوى الشهيد الصدر، بعد الصمت المطبق والخذلان الشديد.
ولذلك شاء بعض طلابه أن ينصرف الشهيد الصدر ـ وبشكل أساسي ـ للبحث والدرس والعمل الحوزوي المحض، شأنه شأن الفقهاء والمراجع الذين لا يشغلهم عن ذلك شاغل، ولا يصرفهم عنه صارف. وفي هذا الخصوص يذكر الشيخ خير الله البصري أنه كان يلمس هذا التوجه عند أبرز طلاب الشهيد الصدر، إذ يرى السيد محمود الهاشمي ضرورة أن يبرز الشهيد الصدر ويظهر إلى الناس، كما هو المرجع السيد محمود الشاهرودي ـ مثلاً ـ، في وقتٍ لا يرى البصري ـ وهو من المقربين إلى الشهيد الصدر أيضاً ـ ذلك للشهيد الصدر، بل أنه يأمل منه أن يكون مرجعاً فكرياً ينظّر للمسلمين، على مستوى ما صدر عنه من (البنك اللاربوي في الإسلام) و(مجتمعنا) و(اقتصادنا).. لأنه ليس هناك من يقوم بهذا الدور سواه، في وقت تجد فيه أكثر من واحد ممن يقوم بدور المرجع السيد محمود الشاهرودي وأمثاله(257).
وكان بعض مقربي الشهيد الصدر ومحبيه من يعتقد أن محاولات جهاز السيد الشهيد في دفعه إلى التمحض للبحث العلمي والاتجاه نحو المرجعية أضر بالشهيد الصدر، لأن ذلك مما يستفز السلطة من جهة والمرجعيات من جهة أخرى، كما يعتقده السيد طالب الرفاعي، الذي يذكر أنه قال للسيد محمود الهاشمي: إنه وجهازه ورَّط الشهيد الصدر في المرجعية التي لم تكن مكتملة العناصر، إلاّ أن السيد الهاشمي كان يعتقد أن الاتجاه نحو المرجعية يُحصِّن الشهيد الصدر وينفي عنه تهمة السياسي ويلبسه ثوباً دينياً ومرجعياً بعيداً عن وضعه وتاريخه السياسي(258). وربما من المفيد الإشارة إلى أن السيد طالب الرفاعي كان سيئ الظن بعدد من أركان وجهاز السيد الصدر، ويذكر أنه كان يحذّر الشهيد الصدر من الشيخ علي الكوراني والسيد محمد باقر الحكيم الذي وصفه أنه حكيمي من قرنه إلى قدمه، والسيدين الحائري والهاشمي.
ويذكر الشيخ عبد الحليم الزهيري أنه كان جالساً في مجلس الشهيد الصدر وقد وفد عليه مسافر من القاهرة، حمل رسالة من السيد طالب الرفاعي، فقرأها الشهيد الصدر، ثم التفت إلى حاملها بشيء من الغضب، لأن الخط ليس خطه، وكانت تحمل التعريض بالسيدين الحائري والهاشمي وإنهما لا ينفعان في مرجعية الشهيد الصدر. وقد أكَّد السيد الرفاعي للشيخ الزهيري حقيقة الرسالة، وإنها كانت تحمل ذلك، ولم تكن بخطه، بل أنه أملاها بالهاتف على الشيخ منير الطريحي، وحملها غالب الطريحي، لأنه لم يكن على سعة من الوقت ليكتبها بنفسه(259).
رؤية الشهيد الصدر للعمل على مستوى الاستراتيجية والتكتيك تختلف عن ممارسة جهازه، فهو لم يكن يهدف إلى خلق القطيعة مع الحزب، لأنه يعرف أنه ذراعه وانه أقرب الناس إليه، ولم يكن ليدخل في صراعٍ أو خصومة مع أكثر الحزبيين تطرفاً، بل كان يحبهم ويحترمهم(260).
ولكن هناك جوّاً آخر في فضاء جهازه المرجعي، ربما أمعن في تطبيق بعض قراراته بتعسفٍ شديد، وقد ضاقوا ذرعاً بالواعين والمحسوبين على حزب الدعوة، إلى درجة لم يبق منهم من يتردد على منزل الشهيد الصدر إلاّ القليل، كان من ضمنهم الشيخ عبد الحليم الزهيري الذي يذكر أنه بقي يتردد على منزل الشهيد الصدر بناءً على تشجيع الشهيد الشيخ حسين معن(261).
في وقت أبلغ فيه السيد عمار أبو رغيف وهو من طلاب الشهيد الصدر المحسوبين على حزب الدعوة بعدم التردد على منزل الشهيد الصدر، وذلك بعد إطلاق سراحه من السجن في العام 1974، ويذكر في هذا المجال أنه طلب من الشيخ محمد البهادلي ـ صهر الشيخ محمد أمين زين الدين المرجع ـ أن يكون كفيله ـ لأن إطلاق سراح الموقوفين كان يتم بكفالات ـ فأشار الشيخ أحمد البهادلي إليه أن السيد عمار أبو رغيف من جماعة الشهيد الصدر وهم يكفلونه. فتحدث الشيخ محمد البهادلي مع بعض جهاز السيد الصدر، فأجيب بأنهم لا علاقة لهم بالسيد عمار(262).
هذا، في وقت يشعر فيه هؤلاء الواعون أن هناك انفتاحاً على المحسوبين على السلطة، ممن أخذ بالتردد على منزل الشهيد الصدر، مما يوحي بانقلاب الوضع في دار السيد الشهيد(263). وقد انعكس هذا التوجه الذي كان يعيشه جهاز الشهيد الصدر المرجعي وتحسسه من المحسوبين على حزب الدعوة على كتابات السيد محمد باقر الحكيم لاحقاً، فادعى أن من جملة ما اتخذه السيد الشهيد من إجراءات: ""المنع من الحديث عن علاقته بالتنظيم الخاص، سواء على مستوى التاريخ أو التأييد أو الرعاية، وكان يظهر انفعالاً شديداً من سماع ذلك""(264).
وهو ما يعبّر عن طبيعة الفهم المتباين بين الشهيد الصدر وجهازه المرجعي، لأن ما يذكره السيد الحكيم مما لا واقع له على المستوى التاريخي، ولا تسعفه المعطيات التاريخية إذ لم يكن بالإمكان الحديث عن حزب الدعوة ودور الشهيد الصدر فيه، بأي مستوى من مستويات، فأين منع الشهيد الصدر؟! إذ أن الحديث في العراق عن موضوع من هذا القبيل يكلّف المتحدث فضلاً عن غيره حياته والسيد الحكيم يعرف ذلك جيداً. فأين منع الشهيد الصدر؟ ومما يؤيد ذلك أن الشيخ النعماني وهو بصدد حديثه عن حزب الدعوة ودور الشهيد الصدر فيه يقول: "" إنني لم أسمع من السيد الشهيد شيئاً يتعلق بهذا الموضوع، ولعل السبب أن الفترة التي عشتها معه ـ وهي مرحلةٍ المرجعية الفعلية ـ قد تجاوزت تلك النشاطات، أو أن الضرورة لم تكن تتطلب ذكر تلك النشاطات، خاصة أن السلطة كانت تحاول اجتثاث المرجعية الدينية من خلال توجيه الاتهامات الحزبية إليها، فكان من الطبيعي أن يتجنب (رضوان الله عليه) طرق هذا الموضوع بجذوره التاريخية وتفاصيله الدقيقة""(265). وهو ما يؤكد أن منعاً من الحديث عن حزب الدعوة ودور الشهيد الصدر فيه، لم يكن إلاّ في نفوس بعض أركان جهاز الشهيد المرجعي، ممن ضاق ذرعاً بالحزب والمحسوبين عليه.
ويمكن القول إن هذا التكتيك الذي لجأ إليه الشهيد الصدر لم يفده شيئاً، فلا هو أقنع السلطات ببراءته وسلامة نياته تجاهها، وهو ما تكشفه الأيام اللاحقة، وما انتهت إليه العلاقة بينهما، من استشهاد السيد محمد باقر الصدر واغتياله على يد السلطة العراقية، ولا هو أقنع رجال المرجعية والحوزة في النجف بتغيّر (محمد باقر الصدر) وأنه ليس ابن الحركة الإسلامية، ولم يعد منتمياً إليها، فقد بقي الحزبي والسياسي، الذي يشار إليه بحذر وباتهام دائمين.
ويمكن أن أشير إلى مفردة واحدة يذكرها الشيخ النابلسي بخصوص بعض المتذمرين من الشهيد الصدر فيقول: "".. وأذكر بالمناسبة أن السيد محمد رضا الحكيم(*)، كانت علاقته بالسيد الصدر سيئة وكذلك في أخيه السيد محمد باقر الحكيم، والسبب كما قيل بأن السيدين من أقطاب حزب الدعوة وهو لا يحب الأحزاب، لا حزب الدعوة ولا غيره. ورغم أن السيد الصدر أفتى صريحاً بمنشور وزع بالحوزة بحرمة انتساب طالب العلم لأي حزب إسلامي أو غير إسلامي، مع ذلك بقي السيد محمد رضا على حنقه من السيد الصدر"(266).
[/align]
يتبع / تصعيد العلاقة.