بقلم | محمد الحسيني ...
في ذكرى رحيل السيد فضل الل
ه


في ذكراه ( طيّب الله ثراه ) يطول عنه الحديث ، وهو عصيّ على الاختصار، و لذلك أجدني عاجزاً عن جمع شتات ما يدور في خاطري ، خصوصاً في منشور تقتضيه الذكرى ، فأضطر لاقتباس علامة فارقة في شخصيته ميزّته عن أقرانه . وأحسب أن واحدة من هذه العلامات الفارقة ، قدرته على التخطيط في عالم لم يألف ذلك، وقد دأب على ذلك في عدة اتجاهات من حياته، وفي دوائر مختلفة من اهتماماته، لعلّ في مقدمها اهتمامه البالغ بالعمل الاجتماعي، والذي بناه لبنة لبنة، وبجهودٍ فردية متواضعة في بداية هذا النشاط، فكان أنْ ترك (جمعية المبرّات الخيرية) التي تضم عدداً من دور الأيتام والمسنيّن وأصحاب الاحتياجات الخاصة، وعدداً من المدارس والمعاهد العلمية الأكاديمية، فضلاً عن دور الصحة والمستوصفات والمستشفيات، علاوة على النشاط الديني الخاص الذي يقتصر عليه معظم علماء الدين في أعمالهم ونشاطاتهم.
اهتمامه بالمحيط الاجتماعي ينبع من تفهمه الكبير لتحديات عصره، ومتطلبات الناس في هذا العصر، فكان أن تجاوز ما هو المألوف في سلوك الفقهاء من اقتصارهم على المعتاد والسائد، وهو ما يُفسر نزوعه نحو بناء مؤسساتٍ ثقافية وعلمية وصحية واجتماعية عجزت عن بنائها حكومات، في سلوك فريدٍ من نوعه لدى المراجع الدينية وفقهاء الإسلام..
وهو ما يفسر أيضاً سماعه بمشاكل الناس على اختلاف طبقاتهم، وهو (أُذن) صغواء لهم، تعنيه هذه المشاكل وتهمه جداً، فيفكّر طويلاً وبجدٍ في تذليل ما يمكن تذليله، وتجاوز ما يمكن تجاوزه، مما انعكس على مواقفه الفقهية وفتاواه، بعيداً عن ما دأبت عليه الغالبية العظمى من المراجع الدينية من الثبات وقلة الاهتمام بالتغيرات، أو المكابرة تجاه الظروف والقناعات والمناخات المستجدة، فكان اهتمام السيد محمد حسين فضل الله بهذه المتطلبات اهتمام الخبير والعليم، من دون أن يعني ذلك تجاوز ثوابت الشريعة وخطوطها الحمراء، فكان حريصاً على توسيع دائرة الملتزمين بها عبر رفع القيود التي لا أساس لها في الشريعة مما وضعه بعض (السدنة) طبقاً لأمزجتهم أو تصوراتهم، إذ لم يجد مصلحة في التضييق على الناس باسم الدين في وقت يرى فيه الدين سمحاً سهلاً، وقد جاء نبي الإسلام بالشريعة السمحاء، ورفع عن الناس الإصر والأغلال، فكان أن غضب قوم، وساء ذلك آخرين، بينهم جاهل متنسك، وآخر انتهازي يتحيّن الفرص، فيما صمت آخرون خشية (الدواهي العظمى)..
كان فقيه عصره بحق، فكان منذ أن تصدى للمرجعية الفقهية يفكّر بعصره، لا كما يدأب عليه المقلِّدة من الفقهاء من حفظة المتون وحرّاس القديم ، وكان السيد محمد حسين فضل الله فقيهاً بحق، فهو بقدر ما كان وفياً للثوابت الفقهية فإنه يأبى أن يكون صدى للآخرين يردد ما يردّدون، ويفتي بما يفتي به الأسلاف، لمجرد أنهم أسلاف، إذ لو كان كذلك فإنه سيكّف عن أن يكون مجتهداً، وسيكون مجرد مقلِّد واعٍ، كما هو شأن كثير من المتفقهين، أو ممن يقال عنهم فقهاء..
ولأنه فقيه العصر ومعنياً بموقفٍ فقهي تجاه مقلديه وجمهوره والمؤمنين والسائلين، فقد آثر أن يكون صريحاً، فلم يكن للسوق التجارية في فقهه نصيب، ولم يدخل هذه البورصة للمضاربة في هذه السوق، ولذلك – ربما – خسر في بعض الأوساط وإنْ ربح دينه وحاز ثقة أوساط أخرى. ولأنه كان معنيّاً بالفقه المحمدي فقد تنكّر لفقه (البازار)، وما كان سائداً في هذه السوق من عدم الإفصاح عن الفتوى الحقيقية لدواع تجارية، ومضاربات يعرفها تجار هذه السوق.
ولأنه كان معنياً بالإسلام كله، فقد كان الفقيه والمفكّر والداعية والواعظ... فلم يكن ليذعن للأنماط السلوكية السائدة في الوسط المرجعي، والتي اضطرت معظم المراجع الفقهية للاحتجاب والاعتكاف بعيداً عن الناس، فلم يكن السيد محمد حسين فضل الله (شبحاً) يظهر في لحظة ويغيب زمناً آخر، بل كان مرجع الناس، يجيب على أسئلة الصغير كما يجيب على أسئلة الكبير، ويجالس الفقراء كما يجالس الشرفاء (كما يوصفون)، ويجيب المرأة على أسئلتها كما يجيب الرجل ويجالسه.
وهو فوق ذلك لم يكفّ عن وظيفته اليومية، من صلاةٍ بالناس وموعظة هنا وهناك...
كان الحاضر حيث يكون زماناً ومكاناً ، ولعله الحاضر في الغياب أيضا..
رحمه الله وأعلى مقامه